نور الجندلي
عرفتهُ منذ زمنٍ طويل ، عندما كان يزورنا في كل عام ..
كان شاباً .. وسيم الطلعة ، أنيق النظر ، له هيبة كبيرة ووقار ..
في ابتسامته حرارة وصدق ، وفي قلبه دفء كبير وعنفوان
أحببتهُ وقد كنتُ صغيرة ، وكان عمره تسع وعشرون .. أو ثلاثون .. لستُ أدري !
لكنني تعلقتُ به بشدّة ، وصرت أرقب قدومه كلّ عام ..
وعجبتُ له كيف يحافظُ على هذا الشباب الدائم ، وأنا أكبر مع الأيام وأشيخ وأهرم ويواريني التراب ، ويبقى هو ضيفُ كلِّ الفصول يأتينا في موعده كلما لاح الهلال !
وقعت هيبته في قلبي مذ رأيتُ الناس يستقبلونه بحفاوةٍ وحبّ كبيرين ، ويجتمعون في المساجد كلما لاح ..
أعجبتُ بتواضعه وهو يمرُّ بهم بيتاً بيتاً ويصافحهم فرداً فرداً ، ويبتسمون ..
وأبكي ...... حبّاً وشوقاً وحنيناً ..
وأهمسُ له بصمتٍ ....... لقد طال الانتظار ...
على شرف قدومه كانت تقام الموائد العامرة ، ويأكل الأغنياء بجوار الفقراء ، ويسري في المكان جوّ حميمٌ من ألفة ، يجعلني أشمخ معتزّة بما يحدث ..
فهذا حدث يبدو لي وكأنه خارج من نطاق الزمان ، والجشع هو حلّة يرتديها الأغنياء في العالم ، والطمع يرتديه الفقراء !
وتحلو اللقاءات في المساجد ، لا يتغيب فرد من أسرة ، وتقام الصلوات ، وتغسل الذنوب ، ويكبر القلبُ بما يلفّه من ضياء ..
وأبقى معه ، أتعقب تواجده لحظه بلحظة ، وخطوة بخطوة ، أحاول ألا أتركهُ لحظة .. وأن أسكبَ في روحي من عطايا الرحمن عند تواجده الشيء الكثير ..
أصوم في النهار عن كل ما يعكرني ، حتى الطعام وحتى الشراب ..
وأقوم الليل خاشعة .. يرافقني نسيم عطره ، وآياتُ القرآن ..
ومن جمال حضوره أنه لا يغادر قبل توزيع الجوائز ، أغمضُ عينيّ ، أتخيّلُ جائزتي ، أتمناها جنّة ، أو قصراً أو بستاناً أو فردوساً ..
وأفتحهما من جديد ، لأجد قلبي يدعو ، وجوارحي تؤمّن .. وروحي تعلو وتعلو ، حتى تنتشي بجمال اللقاء ..
لحظاتُ الوداع كم تحزنني ، وكم يبكيني الرحيل ..
أرجوه بحبّ أن يبقى قليلاً إلى جانبي ..
يرتجف قلبي ألماً ، حين يغادرني بصمت ، وألوّح أنا بالوداع ..
أتأملُ ملامحهُ المضيئة وسؤالٌ يحتلني ..
ترى .. هل سنلتقي في يوم ؟ وهل تعودُ إليّ مشتاقاً يا ضيف كلّ الفصول ؟
أم أنكَ ستأتي إلى هنا فلا تجدني ...
عندها سيكون قد فات الأوان !